تصادف هذه الأيام ذكرى مرور عامين على رحيل العلامة حمد الجاسر، الذي غيّبه الموت قبل عامين في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد رحلة طويلة مع البحث العلمي والصحافة والنشر والتأليف والتحقيق في تراث الأمة العربية وآدابها، ولقد امتدت تلك الرحلة سبعين عاماً بدأها معلماً في سفح جبل رضوى الشهير، والعلامة البحاثة حمد الجاسر المولود في قرية البرود في وسط أقليم نجد، في عام 1909م أُصيب في طفولته بأمراض بدنية مزمنة، وحُفر له القبرُ مراتٍ ثلاث، ولكنه ووري الثرى في القبر الرابع، بعد أن عاش تسعين عاماً، وكان الضعفُ البدني الذي أصابه في طفولته، فألَ خيرٍ له، إذ كان سبباً له في أن يتجه إلى التحصيل العلمي، وأن يشذَّ عن أقرانه في قريته وممارساتهم للفلاحة والرعي ! فاتجه صوب الرياض في شبابه المبكر، ثم غادرها إلى الحجاز، ليدرس في المعهد السعودي في مكة المكرمة، ثم يبدأ في رحلته العلمية مدرساً في عام 1929م متخصصاً بعلوم الشريعة الإسلامية، ثم عُين قاضياً في مدية ضباء، على ساحل البحر الأحمر، إلا أن ممارساته لأعمال القضاء لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما اصطدم بالمؤسسة الدينية في نجد، فعزل عن القضاء !! ليتولى إدارة كلية الشريعة بالرياض في عام 1941هـ، وكان إعفائه من القضاء، المنعطف الأهم في حياته، إذ انتقل بفكره وعلمه من تخصصه في علوم الشريعة، إلى حقل الدراسات التاريخية والأثارية، ليكون رائداً من رواد هذا المجال، بما أودعه في المكتبة العربية من مؤلفات عدة سدّت فراغاً كبيراً في حقولٍ عديدة. برز الشيخ حمد الجاسر واشتهر وبزّ أقرانه في مجالات عديدة، أهمها العمل الصحافي، إذ يُعدُ الجاسر رائد الصحافة بالمنطقة الوسطى (نجد) إذ أسّس أول صحيفة فيها، وذلك في عام 1952م وهي مجلة اليمامة، التي لاتزال تصدر إلى اليوم هذا، كما جَلَب أول مطبعة إلى البلاد النجدية، وذلك في عام 1955م، ورأس تحرير صحيفة الرياض، في عام 1964م ثم أصدر مجلته الشهيرة "العرب" المعنية بتاريخ العرب وآدابهم وتراثهم الفكري، وهي مجلة علمية، معتمداً فيها على جهده الذاتي، ولعل من أهم الكتب التي أصدرها الشيخ الجاسر في بداية الستينات كتاب" بلاد العرب" للحسن الأصبهاني، المتوفي عام 310هـ، كما حقق عدداً من الكتب التي تناولت الدروب والمسالك في الجزيرة العربية وطرق الحج، ومن الروافد التراثية التي أولاها الشيخ اهتمامه وعنايته كتب الرحلات القديمة، التي تُعدُ مصدراً مهماً من مصادر تاريخ الجزيرة العربية، كما حقق عدداً من الكتب التي تناولت التاريخ المحلي، كما كان له السبق في نشر عددٍ من النصوص الشعرية، لعددٍ من الشعراء القدماء، كعبدالله بن همام السلولي والصمة القشيري، المتوفى عام 95هـ، والشاعر جحدر العكلي، ويزيد بن الطثرية، المتوفى عام 126هـ، وغيرهم، كما كان له القدح المعلّى في مجال نقد كتب التراث، اتكاءً على غزارة علمٍ لديه، وإحاطة تامة بمصادر تراث الأمة العربية، وقد فجرت مراجعاته تلك عدداً من المعارك الأدبية، التي خاضها مع عددٍ من العلماء والمفكرين السعوديين، إضافةً إلى ذلك قام الجاسر برحلات كثيرة إلى عددٍ من الدول العربية وأوربا، بحثاً عن المخطوطات والنوادر، ومشاهدة الأماكن وتحديد مواقعها، وتطبيق ذلك على ما ورد في الأشعار والنصوص القديمة .والجاسر الذي لقب بهمداني الجزيرة العربية، كرّم من قبل قادة دول مجلس التعاون الخليجي،في عام 1990م، ونال جائزة الدولة التقديرية في الأدب، ومنحته جامعة الملك سعود الدكتوراة الفخرية، وفاز بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 1996م في مجال "أدب الرحلات في التراث العربي" . والشيخ حمد الجاسر متزوج من السيدة هيلة العنقري، وقد رزق بولدين وثلاث بنات، أكبرهم محمد، الذي لقي مصرعه وهو في الخامسة والعشرين من عمره، في حادث تفجير طائرة الشرق الأوسط، قبالة العاصمة اللبنانية، إبان الحرب الأهلية في لبنان، وكان عائداً من أمريكا، وبيده شهادة الليسانس في التجارة، وكانت وفاته حينما أتخذ الجاسر من بيروت منفى اختيارياً له، تلك العاصمة التي تجرّع الجاسر فيها الحرمان مرتين، فإضافةً إلى مصرع ابنه محمد، فقد احترقت فيها مكتبته الثمينة، بما حوته من ذخائر ونفائس ومخطوطات، ظل سنوات طويلة يجمعها، فتحولت جميعها إلى رماد، فبكاها الجاسر طويلاً، ومات وفي نفسه شيء من مكتبته !! .