باشرت عملي ثماني ساعات يوميا في المكتبة بدون إنقطاع . و بعد انتهاء دوام المكتبة كانت المترجمة تنتظرني أمام باب المكتبة كل يوم و تقلني إلى الفندق أو المطعم لتناول الغداء .
صورة برج إيفل في المساء حملتها من الإنترنت
وفي يوم من الأيام إعتذرت لي المترجمة من المجيئ إلى المكتبة بعد انتهاء الدوام ، فقلت لها لا يوجد عندي أي مانع . خرجت من المكتبة بعد انتهاء الدوام و سرت باتجاه أحد مواقف الباصات ، لكني كنت أجهل الفرنسية إلا أني سألت إحدى السيدات الشقراوات فقالت لي أنا آخذك معي بسيارتي و أوصلك إلى الفندق .
يا سلام على طيبة بنات باريس الشقراوات ، صعدت معها في سيارتها و ساقت إلى محل مصبغة الملابس ( كوي و غسل الملابس ) ، فقالت لي إسمح لي دقيقة بأن آخذ ملابسي ، طبعا كانت تتحدث معي بالإنكليزية و ببعض الكلمات العربية باللهجة المصرية . فقلت لها تفضلي و بعد دقيقتين عادت و معها ملابسها و قادت السيارة إلى بيتها . و في أثناء الطريق علمت منها بأنها كانت تعمل المكياج للمطرب المرحوم عبد الحليم حافظ ، و بدأت تغني بعض مقاطع أغانيه .
فقلت في نفسي أحباب وادي الرافدين و البلدان العربية لقاؤهم في باريس !!!.
ما أجمل اللقاءات عندما تنسجم المشاعر و الأحاديث . وصلنا بيتها ثم هبطت من سيارتها و قالت لي تفضل . قلت لا للأسف لأني أريد أن أرتاح في الفندق . ثم قادتني و أوصلتني إلى الفندق و شكرتها على لطفها و حبها للعرب .
ومن الذكريات الحلوة التي مررت بها ولا زلت اتذكرها بشوق هي أني ذهبت ظهر أحد الأيام السبت أو الأحد لأتناول وجبة الغداء في مطعم لبناني جميل في أحد أحياء باريس . كان المطعم واسعا و نظيفا للغاية وكانت راقصة عربية ترقص و الموسيقى العربية تدوي و الدجاج و الشاورمة و باقي المشويات تجعل اللعاب يسيل في فم ناظرها ههههههههههه .
سلمت على صاحب المطعم و جلست إلى طاولة في منتصف المطعم . و بعد دقائق جاء عامل المطعم حاملا معه صينية مملوءة بالمقبلات و المشهيات اللذيذة .... مكانكم خال هههههه .
بدأت بتناول بعضا من المقبلات و الموسيقى تدوي و الراقصة ترقص في المطعم .
و فجأة حضر شابان من بريطانيا و جلسا أمامي و تحدثا بالإنجليزية بصوت مرتفع ، فهمت أكثر من ثلاثة أرباع الكلام .
ثم جاء شخصان ألمانيان و جلسا إلى الطاولة على جهة يميني و تحدثا عاليا و فهمت كل كلامهما .
ومن حسن الصدف جاء ثلاثة من الإخوة العرب جلسوا خلفي إلى جهة اليسار و بدأ حديثهم و صراخهم يدوي لأن الموسيقى كانت عالية .
و أخيرا أتت سيدة إيرانية مع بنتها الصغيرة و جلست خلفي إلى جهة اليمين و تحدثت إلى إبنتها بصوت عال فهمت أكثر الحديث . وفي الوقت الذي كنت منغمسا في تناول المقبلات ، حظر الطعام الرئيسي فيفي حين كنت أستمتع بالغناء و الموسيقى العربية و بالرقص العربي و الغذاء العربي و اسمع أربع لغات في وقت واحد . ما شاء الله و صلوات على النبي . فلو حضر تركيان و أسبانيان لأكتمل الموضوع ههههههههه .
لم أمر يوما بمثل هذا الموقف الجميل في رحلاتي حول المدن الأوروبية وأمريكا والدول العربية و حياتي ، فكان والله من أروع المواقف التي أتذكرها بشوق ، و الشكر لله .
أما المترجمة الثانية فكانت السيدة عطية أو أتية فكانت تتحدث اللغة العربية بطلاقة و بلهجة لبنانية جميلة ، لأنها ولدت و عاشت في لبنان مع عائلتها الفرنسية العربية لمدة 14 سنة ، كما أخبرتني .
كانت مدام عطية تصاحبني إلى المتاحف و تريني معالم مدينة باريس و أحياءها الجميلة .
أما زوجها فكان من أشهر الأطباء في معالجة أمراض السرطان .
طلبت من السيدة عطية إجراء مقابلة مع رئيس القسم العربي أو معهد الإستشراق في جامعة السوربون . و بالفعل زرنا البروفسور مسيو آبل ِAbel Monsieur و كان اللقاء طيبا حيث دار بيني و بينه حوار عن الدراسات الإسلامية و الشرقية و عن المستشرقين الفرنسيين أمثال :
1. Blochet, E. 2. Postel, G. 3. Vattier, P. 4. Sédillot, J. J. 5 . Beaussier, A. 6 . Slane, Baron Mac-Guckin de 7 . Derenbourg, H. 8 . Massignon, L. و غيرهم .
ثم قمنا بسفرة إلى فرساي الجميلة و كانت السيدة عطية تشرح لي تاريخ قصر فرساي وحديقته الغناء .
كما شاهدت إحتفالات 14 تموز الصاخبة بصحبة السيدة عطية في قصر رئيس الجمهورية الرسمي في باريس .
وفي أيام السبت و الأحد زرت متاحف باريس و أهمها متحف اللوفر و بومبيدو و المتحف الحربي و المتحف الإسلامي مع الأخت ذكاء و خطيبها .
و قد لفتت انتباهي إحدى غرف متحف اللوفر أو بومبيدو كان فيها حوضان كبيران من الرخام أو السيراميك يبلغ نصف قطر الحوض الواحد أكثر من متر ،
و أحدهما يبتعد عن الآخر مسافة تقريبا خمسة أمتار . ذهبت ذكاء إلى الحوض الثاني و همست بصوت واطئ جدا في داخل الحوض و قالت هالو ، و أنا سمعت
صوتها بصورة عالية جدا هالو أي رجع الصدى بأضعاف .
و في تلك اللحظة قدمت عائلة إنكليزية مع طفلتها الصغيرة ، قلت لها هل تريدين أن تتحدثي مع والدك كالهاتف ( تليفونيا ) عبر هذا الحوض ؟
فأجابتني بنعم . قلت لها إذهبي إلى ذلك الحوض و تحدثي في داخله بصوت واطئ جدا و قولي لوالدك صباح الخير ، فإنه سيرد عليك أيضا بصوت واطئ ، إلا أنك ستسمعين صوته عاليا مدويا .
فرحت الطفلة و عائلتها بهذا الإختراع الجميل الذي صنعه إما نصير الدين الطوسي أو بهاء الدين العاملي . و في الرحلة القادمة إلى باريس ، سأحاول البحث من جديد عن هذه الغرفة للتأكد من صانعها ، إن شاء الله .
و بعد انتهاء عملي من فحص المخطوطات العربية و تصويرها حزمت حقائبي و سافرت في اليوم التالي المصادف 16 / 7 / 1977 إلى لندن لزيارة مكتبة المتحف البريطاني و متاحف لندن و غرينيتش . و بعد مكوثي عشرين يوما سافرت إلى ألمانيا لزيارة مكتبتي جامعة ماربورغ و مكتبة الدولة الألمانية في برلين لغرض فحص المخطوطات العربية في الرياضيات .
و قد استغرقت رحلتي حوالي 80 يوما و عدت إلى العراق العزيز حاملا معي مسودات فهارسي الثلاثة التي ألفتها و مصورات المخطوطات على أفلام الميكرو.
طلب مني الأستاذ المرحوم الدكتورياسين خليل رئيس مركز إحياء التراث العلمي العربي التابع لجامعة بغداد تسليم مصورات مخطوطات المكتبة الوطنية في باريس و مكتبة المتحف البريطاني لغرض وضعها تحت تصرف الإخوة الباحثين العراقيين في مكتبة المركز .
أما مصورات مخطوطات مكتبة الدولة الألمانية فأخذتها معي إلى ألمانيا ، حيث صدر فهرسي الثاني عام 1982 في ألمانيا بعنوان :
فهرس المخطوطات العربية في الرياضيات " 1 " مخطوطات برلين ، الذي كتب عنوانه الخطاط كريم .
ثم صدرت لي فهارس أخرى للمخطوطات العربية باللغتين الألمانية و العربية في موضوعات الطب و الصيدلة و الرياضيات و الفلك و غيرها . و لدي ما يقارب 11 فهرسا بين تأليف و ترجمة فهارس مخطوطات مكتبات أوروبية ، لم تر النور لحد الآن ، بعضها جاهز للطباعة و بعضها مخطوط .