عندما يصبح العيش نوعا من الجحيم

عندما يصبح العيش نوعا من الجحيم
مأساة أسرة فلسطينية في البلدة القديمة في الخليل

مدينةالخليل - نزار رمضان

على خطوط التماس الفاصلة بين البلدة القديمة من مدينة الخليل التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية وبين الشطر الآخر الذي يخضع للسيطرة الفلسطينية بحسب اتفاق الخليل .. يتمركز حجر مكعب صبغ بألوان باهتة .. تعكس ألم التقسيم ، هذا بالإضافة إلى أخاديد كثيرة أخذت موقعها في هذا الحجر وأمثاله جراء آلاف الرصاصات التي يقذفها جنود الاحتلال صباح مساء .
هذا المكعب الباهت يفصل بين منطقة باب الزاوية وطلعة عبد شاكر كما يسميها أهل المدينة وما بين المدخل الشمالي لشارع الشهداء المؤدي إلى مدرسة الدبويا التي تعتبر قلب الاستيطان الإسرائيلي في الخليل وإلى مدرسة أسامة بن المنقذ التي أصبحت قلعة استيطانية رهيبة .
لكنك إذا ما قررت العبور عبر هذا الشارع المكفهر .. فإنه من الضرورة بمكان أن تقرأ على نفسك المعوذات .. بسبب التواجد العسكري المكثف وحركة المستوطنين غير المنقطعة من حي الرميدة إلى مدرسة الدبويا وأسامة .. حيث الانقطاع التام لحركة وتنقل السكان الفلسطينيين ونقلهم بسبب ما يتعرضون له من ألم وأذى من قبل الجيش والمستوطنين .
هناك وفي المكان نفسه وعلى التلة المطلة على منطقة باب الزاوية وحارة الشيخ .. يرتفع منزل جميل مكون من ثلاثة طوابق لا يبعد عن الحي الاستيطاني المسمى بحي الرميدة سوى عشرات الأمتار .. إنه منزل المواطن الفلسطيني الدكتور تيسير زاهدة ، هذا المنزل الذي افتقد الآن إلى كل عناصر الجمال .. بعد أن تحول إلى ثكنة عسكرية يعلو سطحها الجيش الإسرائيلي ..
بكامل معداته .. إحدى طوابق هذا المنزل كانت عبارة عن مستشفى ومختبر خاص للدكتور زاهدة .. خاصة وأنه طبيب أمراض نسائية وولادة لكن هذا المستشفى تحول من مكان يقدم العلاج والدواء والشفاء للمرضى .. إلى منصة عالية لقذف الأحياء الفلسطينية المطلة برصاص الـ"800 ملم ,500 ملم" وقذائف الـ "آر بي جي" .
الدكتور تيسير زاهدة تحدث معنا .. وكأنه ليس من الأحياء من شدة هول المأساة التي يتعرض لها هو وزوجته الحامل وأطفاله الخمسة صباح مساء .. من خلال حديثه وألمه تشعر أن هناك ملحمة أسطورية مؤلمة يخوضها هو وأسرته مع جيش الاحتلال الذي افقده طعم الحياة ونعيمها .. حيث الاعتداء على المنزل ومن فيه وإرعاب الأطفال وسرقة الحاجيات وإلقاء القاذورات في خزانات المياه وثقب وتحطيم الجزء الآخر منها .
معاناتي ليست جديدة فهي قديمة جديدة منذ أن احتل المنزل في 20/8/1998 هذه المعاناة التي دفعت أنا وأطفالي ثمنها من أعصابنا ودمنا وأجسادنا وحياتنا .. انه يكره الصحافة وحقوق الإنسان والسياسة والسياسيين ليس لذاتها وإنما لأنه يشعر أنه لم يتغير على حياته ومأساته شيء رغم كل المناشدات التي تقدم بها لهذه الوسائل والمؤسسات .
الدكتور زاهدة لم يستوعب بتاتا العيش بهذا الشكل فهو طبيب ورجل مثقف ولديه إحساس وشعور .. ولهذا كان يواجه جيش الاحتلال دوما ويتصدى له .. إلا أنه كاد يستشهد ويموت يوم أن اعتدى الجيش عليه وأوجعوه ضربا وأدخل إلى المستشفى في 2/12/1999 وهو في حالة غيبوبة كاملة .
في انتفاضة الأقصى تحول المنزل إلى ثكنة عسكرية دائمة طيلة 24 ساعة .. حيث نصب على سطح المنزل عدد من الرشاشات الثقيلة وقاذفة للصواريخ ، وما أن يحل المساء حتى تبدأ نار موقدة .. الأطفال يصرخون .. الجدران تهتز .. الزجاج يتساقط .. صورة لا يمكن تصورها .. وأصعب ما في الأمر عندما ينتفض الأطفال من أسرتهم بعد إطلاق قذيفة أو صاروخ ، يقول الدكتور زاهدة في إحدى الليالي تعرضت مدينة الخليل إلى قصف كثيف ، فتحت مدخل بيت الدرج أنا وزوجتي الحامل وأنا لا أدري ماذا يجري في الخخخارج .... وما هي إلى لحظات حتى انطلقت قذيفة "آر بي جي" من فوق السطح باتجاه موقع لقوات الـ17 في حارة الشيخ فارتفعت وسقطت أنا وزوجتي أرضا وشعرت أن المنزل انتزع من جذوره .. لم يبق في المنزل المكون من ثلاثة أدوار مكان دون شقوق أو حفر .. وكأنه مكان للأشباح .
ولا يكفي القهر والرعب والألم اليومي .. بل ينبغي أن نعيش بدون ماء ، هكذا وصف الدكتور زاهدة الوضع ، حيث قال : لقد ثقب الجيش الإسرائيلي كافة خزانات المياه المعدنية المتواجدة على السطح ولهذا ننتظر وصول الماء عبر الشبكة الرئيسة لنقوم بملء الأوعية والطناجر والقوارير .. دون أن ننعم طيلة أحد عشر شهرا باستقبال الماء من الأنابيب .
إلا أن الدكتور زاهدة أشار لنا أن هناك ترانيم أسبوعية كل يوم جمعة وسبت لا بد من أن يعيشوا على أنغامها .. ألا وهي اعتداءات المستوطنين الذين يتعبدون يوم سبتهم بإلقاء الحجارة علينا والزجاجات الفارغة ، وهذا حدث أسبوعي لا بد منه .. اشتكينا للشرطة الإسرائيلية ، لكن لا حياة لمن تنادي .
وحول حالة الأسرة في ظل نظام منع التجول ، قال الدكتور زاهدة ،الأمر يستوي بالنسبة لنا سواء كان منع تجول أم غير ذلك ، لأنه حتى في الأوقات التي لا يكون فيها نظام منع تجول ، لا يجرؤ الناس على الخروج في الشارع من عنف الجيش والمستوطنين ، على سبيل المثال ، زوجتي حامل وعلى أبواب الولادة وأنا غير قادر على إحضارها إلى عيادتي لفحص الجنين ، خشية من اعتداءات المستوطنين ، كل ذلك انعكس على حالتنا الاجتماعية والنفسية والصحية ، مشيرا إلى أنه يعاني من ارتفاع في الضغط والسكري ، خاصة وهو يرى أسرته في رعب كامل ودائم دون أن يستطيع أن يقدم لهم شيئا .
لكن الأطفال داخل هذه الأسرة المعذبة ورغم صغرهم ، لهم لغة أخرى ، الطفلة (نجية) ابنة الدكتور زاهدة ، تصف لنا طفولتها في ظل هذه الأجواء فتقول : بلا شك حياتنا رعب وألم ، لا نستطيع أن نطالع دروسنا أو نقوم بواجباتنا ، نستيقظ ليلا ، ونصرخ نهارا جراء القصف اليومي الذي ينطلق من فوق رؤوسنا ، ورغم ذلك تقول نجية حصلت على معدل 80% في دروسي وأنا في الصف الخامس وترفعت على الصف السادس وسأعيش حياتي طبيعية رغم أنف الاحتلال .
وعند سؤالنا لها ألم تطلبي من والدك أن يستأجر لكم بيتا آخر وتخرجوا من هذا العذاب ، أجابت نجية بلغة الكبار والعظماء ( سنبقى على قلوبهم ) لن نخرج من منزلنا سنبقى صامدين مهما كان الأمر .
تلكم هي صورة من مئات الصور التي تتعرض لرحلة العذاب اليومي الذي يعيشه أبناء البلدة القديمة في الخليل ، هذه المدينة التي قسمت ضمن اتفاقيات سلام لكن السلام لم يسكن في جنباتها وأحيائها .. فمتى يتنفس أطفالها عبير الحرية .