بوركتِ أيَّتُها السخرية..!

ِ

سلمان بن محمد العنـزي
05/12/2001



السخرية نوع من أنواع الفكاهة الضاحكة ،غير أنها ترتفع عن الفكاهة في موضوعها ، فالسخرية أسلوب ضاحك لطيف ، يتسلَّل إلى قلوب القرَّاء أو السامعين ، كما يتسلل الطَّيف في ذاكرة الإنسان، وينتقل في نفوسهم كما تنتقل كلمات الحُبّ ، هذا الأسلوب يعتمد فكرة جادة يدور حولها، ويناقشها، ويحللها، وربما وصف سذاجة أصحابها أو شدة ذكائهم .
والسخرية -بمعناها الذي يريده الأدباء-: ظاهرة ترتفع بالنكتة عن أن تكون ضوءاً يقدحه الزِّناد في مهبّ عاصفة هَوْجَاء إلى أن تكون أعمدة إنارةٍ تمتدُّ لتشملَ المدينة الإنسانية بكاملها.
ومن هنا، كان لكبار الأدباء والكتاب اهتمامٌ ظاهر بالسخرية ، فأنت إذا قرأت لشكسبير -مثلاً- تجده لا ينفكُّ يرسل النكتة تِلْو الأخرى لا ليُضْحِك بها الجمهورَ وحسْب؛ بل ليجعلها أداةًحادّة يقتل بها ما لا يصلح أن يخالِط الحياة، وكذلك فعل (الجاحظ) في كثير من كتبهِ، بل انتقل إلى مسألة أخطر، حيث نشر عقيدته المنحرفة عن طريق النكتة اللاذعة يلقيها في دروب خصومه من أهل السنة.
والسخرية بهذا الثوب تعدُّ وظيفة تختبر بها القدرات، ولن يقدر على فهمها وتسييرها لخدمة الصالح العام، ونشر الأفكار إلا الذكي المجرب المليء بالثقافة ، العارف لدنيا الناس ، السابر لأغوار النفس البشرية والمهتدي إلى معرفة نَزَوات القلوب وكيفية إدارتها وتحريكها إلى الوجهة التي يريد.
من طرائف السخرية: أن قياصرة الأمبراطورية الروسية قبل الثورة البلشفية كانوا يستمعون إلى روايات (دستوفسكي) أو غيره من الكُتَّاب الساخرين، ويضحكون بملء أفواههم ويتعجبون من تحليله، وتصويره، واصطياده النكتَ متعبة القلوب ، ولم يَدُرْ في خَلَد أحدهم أن هذه الروايات الساخرة ذات الطابع التحليلي هي التي أودت بعروشهم وفهَّمت الشعب رسالته، وبصّرته بالعيوب الكثيرة المفتولة على أعناقهم ؛ فخرت اليد الباطشة من بطون الروايات الضاحكة لتقتلع العيون الحالمة وتهشم الأضراس المبتسمة.
وكذلك كان الأمر في فرنسا فقد كانت روايات (موليير و فولتير) وغيرهم هي القوة والوقود للثورة الفرنسية ، أما إنها لو كانت سخرية مجردة عن الفكرة لما وجدت غير رؤوس الأغبياء وأضراس الأغنياء.
هكذا تفعل السخرية بالمجتمع عندما تجد كاتباً عبقرياً يفهم الحياة ، فيوظف الأداة الضاحكة؛ لتكون أداة قاتلة، ولكنه قتلٌ في سبيل الإصلاح، ووجْعٌ يعقبه الابتسام .
ومن عجب أمر السخرية أنها لا تكثر إلا في المجتمع المصهور الذي يعاني ظلماً سياسياً أو اجتماعياً، ولذلك تجد الشعب الفقير المحطم الضعيف من أقدر الشعوب على فهم السخرية والنكتة وأعْرف بمرماها، وأخبر بما تتضمنه من معانٍ ثائرة، ومعانٍ إصلاحية، وإن شئت فاقرأ عن حياة الشعب المصري في أيام فاروق، وأيام الثورة المظلمة، وكذلك الأمر في كل زمان وفي كل مكان . ويعجز كثير من المترفين أو المثقفين، ومن تقتصر ثقافتهم على الكتب من غير معرفة للواقع عن فهم السخرية وما يرادفها ، ومن قبل اضطر (الجاحظ) أن يعلم مثقفاًً غبياً من أصحاب الثياب المليئة بالثقوب الكبيرة(1) :لماذا يكثر من النكت والطرائف، ينظمها بأسلوب ساخر عرف به ولا يزال ، يقول:
"وغلّطك فيه بعض ما رأيت في أثنائه من مزح لم تعرف معناه، ومن بطالة لم تطلّع على غورها، ولم تدر لم اجتلبت، ولا لأيّ علة تكلفت، وأي شيء أريد بها ، ولأي جد احتمل ذلك الهزل، ولأي رياضة تجشمت تلك البطالة؟ ولم تدر أن المزاح جدٌ إذا اجتلب ليكون علة للجد وأن البطالة وقار ورزانة إذا تكلفت لتلك العاقبة ..." (2)
هذا شأن السخرية الحكيمة، وهذا أثرها، وأما أولئك الساخرون فإنهم أول من يضحُّون بحياتهم، وبأوقاتهم عندما تكون التضحية ناراً لا تهمُدُ تضيء للسالكين الدرب، وعندما تتحول كلماتهم أرواحاً صالحة تبحث عن الأجساد الطيبة ، فتدبّ فيها الحياة ويشرق الفجر مبشراً بأرضٍ لا تعرف الرجس ولا الأرجاس.
أيتها السخرية الصالحة يعبِّئ الثريُّ بندقيته، أو مدفعه، أو طيارته؛ ليحول المدن إلى خرائب يدفن فيها كنوزه ، ويعبئك الكاتب العبقري في كلماته؛ ليجعل من الأجساد النجسة مدافن للإنسانية المتعفنة .
فبوركت أيتها الصالحة ، بوركت أيتها السخرية .


--------------------------------------------------------------------------------

(1) كناية عن حب المال.
(2) الحيوان (1/37)